الأربعاء، 4 أبريل 2012

فصل كامل من كتاب "الثورة الأن" للكاتب سعد القرش.. مثقفو السلطان





في آب/ أغسطس 2010، سطرت أولى صفحات كتاب (كلام للرئيس.. قبل الوداع)، وداعه أو وداعي. قلت لأصدقائي: سأتوجه به مباشرة إلى حسني مبارك.
رجحت أن الرجل المسن (82 عاما آنذاك) لن يبقى إلا عاما واحدا (سبتمبر 2011)، وأن علي الانتهاء من الكتاب بسرعة، وأن يطبع بحروف كبيرة، حتى لا يؤجل قراءته، أو ترهق عيناه فيتوقف عن القراءة، وأن ينشر في مطلع 2011، وهو في قمة السلطة؛ فلا يليق بي انتقاد غائب أو مريض أو ضعيف. كان في ذهني كتاب (البحث عن السادات) ليوسف إدريس. وددت أن أصارحه بشكوكي في انقلاب ابنه جمال عليه، باستخدام أدوات وأقلام أسهمت في تثبيت عرشه. كانت صحيفة (الكرامة) قد نشرت يوم 9 / 8 / 2010 ما يلي: 
'بعد الاجتماع السري بين جمال مبارك والمثقفين
أدباء وكتاب: الوريث يلعب بالنار'
بعد انكشاف الأمر، كاد السيد يسين يقول: 'خذوني'. هاج كمن ضبط متلبسا بجريمة، وكتب في صحيفة (الأهرام المسائي) يوم 14 /8 / 2010 كلاما إنشائيا انفعاليا عنوانه (أساطير المثقفين)، قائلا إن الاجتماع نظمته لجنة الثقافة، إحدى لجان أمانة السياسات بالحزب الوطني الحاكم. وكانت أمانة السياسات أقوى من الحزب، والحكومة، ويكتسب المحظوظ بعضويتها حصانة تحميه من لعنة شياطين الإنس والجن، وتجعله فوق القانون، حيث القانون هو الشخص، والشخص فرد يحكم مصر من الباطن، بعلم أبيه أو من دون علمه، وغابت سلطة الدولة، وحضرت سلطة بلطجية لهم قانونهم الخاص، ليعود التاريخ بمصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث الفتوات أذرع تستعين بهم الحكومة، حين تعجز أجهزة الدولة. قال السيد يسين إن جمال مبارك 'رأس اجتماعا يناقش فيه مستقبل الثقافة في مصر'، بحضور أعضاء لجنة الثقافة في أمانة السياسات بالحزب الحاكم، ومثقفين منهم جابر عصفور، وفوزي فهمي، وعماد أبو غازي، ومحمد الصاوي، ويوسف القعيد، والناشر إبراهيم المعلم. فيما بعد، حين سقط نظام مبارك، سيكتب جابر عصفور تحت عنوان (ما فعله الحزب الوطني بمصر) مقالات في (الأهرام)، عما سماه 'كوارث' الحزب الوطني، الذي كان مبارك رئيسه، وأنه فعل بمصر ما لم يفعله بها حزب آخر في تاريخ الأحزاب المصرية، من 'إفساد الحياة السياسية باحتكار السلطة، وما لازم ذلك واقترن به من تزوير إرادة الأمة والتلاعب الفاضح بانتخابات مجلسي الشعب والشورى وآخر كوارث هذا التلاعب التزوير المشين الذي حدث في كارثة الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشعب والشورى... وتشجيع التحالف الشائن بين السلطة ورأس المال، وتبنيه والدفاع عنه للأسف وهو الأمر الذي تسبب في نهب المال العام... ومع ذلك كانت حكومة الحزب الوطني وأمانة سياساته تتباهى بمعدلات تنمية لم ينل منها المحرومون شيئا'. (21 / 2 / 2011)، وسيكون لي مع عصفور وقفات، وأسأل الله الصبر على تحمل كلامه الذي سأتجرعه مضطرا.
ثم استفزني من رأيتهم شهود الزور، حين قابلوا الرئيس، يوم 30 / 9 / 2010: فوزي فهمي، وصلاح عيسى، ويوسف القعيد، ومحمد سلماوي، وعائشة أبو النور، والسيد يسين، وأنيس منصور، وخيري شلبي، وسامية الساعاتي، وأحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور (حسب ترتيب وقوفهم في الصورة التذكارية بعد مقابلة مبارك). وقد أفردت لهم صحيفة 'الأهرام' صفحة عنوانها (لقاء مبارك مع المثقفين.. بأقلام كتاب الأهرام)، مزينة بصورهم الملونة.
في الصفحة التي تتوسطها صورة كبرى للزعيم كتب السيد يسين مقالا عنوانه (لقاء ثقافي فريد). فيما بعد، وقبل تفجر ثورة 25 يناير 2011 بأسبوع واحد، قال لي أحد حضور اللقاء، على هامش مؤتمر في الأقصر، إن السيد يسين كاد يموت، ولكن الله سلم، إذ ظل محصورا بحكم الشيخوخة، وما يصاحبها من أمراض كالبول السكري، وأراد دخول الحمام، ولم يجد جابر عصفور وسيلة هو الآخر، في حين ظل مبارك يتذاكى، ويروي نكات قديمة، لكنها من فمه كانت طازجة، تستحق الضحك. تكلم كثيرا، وهم منصتون. ثم انفجروا مقالات عبروا فيها عن امتنانهم للرئيس الذي صافحهم، وتغنوا بصحة الزعيم، وشبابه الدائم، ورؤاه المستقبلية لخير البلاد والعباد. كتب يوسف القعيد: 'لقد كان المهم بالنسبة لي صحة الرئيس وحضور ذهنه وتوقده وبساطته ورغبته في الاستمرار معنا أطول فترة ممكنة'. وكتب خيري شلبي تحت عنوان (مصر في بعث جديد) أنهم كانوا 'مجموعة من الأصدقاء في ضيافة أخيهم الأكبر. هذا الشعور أخذ يتأكد ويتعمق من لحظة إلى لحظة في ظني هذه الأريحية التي أغدقها علينا الرئيس بكرم لم أشهد له من قبل نظيرا لدرجة أن الجلسة استمرت أربع ساعات لم نشعر بمرورها على الإطلاق. أول شعور مبهج تناقلته نظراتنا كان مبعثه الاطمئنان على صحة الرئيس. كانت الشائعات ـ قاتلها الله ـ قد ألقت في روعنا أن الرئيس في وعكة صحية... إن أكبر وأهم محصول خرجنا به من لقاء الرئيس هو الرئيس نفسه. لقد خيل إلي شخصيا أنه كان على سفر ثم عاد إلينا قويا فتيا ليقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد'. أما وعبر أحمد عبد المعطي حجازي عن سعادته 'حين وجدت الرئيس في كامل لياقته، موفور الصحة، حاضر البديهة، متوقد الذاكرة.. أسعدني كذلك أن أرى الرئيس متفقا معنا في إلى حد كبير حول المبادئ الفكرية والأخلاقية التي يجب أن يكون عليها وجودنا كشعب'. ( الأهرام 2 / 10 / 2010).
وسوف يعود إلى حجازي حد أدنى من الوعي يساعده على اكتشاف حقيقة كانت واضحة لغيره، من غير ضيوف مبارك، ألا وهي 'طغيان مبارك والذين سبقوه قد أنهك المصريين وأذلهم وبدد ثرواتهم واستنفد قدرتهم على الاحتمال ودفعهم أخيرا إلى الثورة'. (الأهرام 30 / 3 / 2011).
أما خيري شلبي فلا أظنه كان معنيا ومهموما بالبحث والتحري، لكي يعيد النظر، ويكتشف بسرعة أن مبارك، الذي راهن على أنه سيقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد، هو نفسه 'الرئيس المخلوع' الذي نفى المصريين 'وسحقهم.. حيث تخلت حكوماته عن جميع مسؤولياتها تجاههم، وأصبحت الدولة المصرية ترعى طبقة الأغنياء وحكوماتها حارسة لرأس المال الطفيلي، المنهوب، فحكومة الحزب الوطني منذ إنشائه، إلى اليوم الذي تم حله، كانت هي الفساد بعينه، وكانت تمثل تحالفا للصوص والسفاحين والقتلة والقراصنة'، ولم ينس المزايدة، والتحلى بحد أقصى من الشجاعة بعد انتهاء المباراة، إذ قال 'إنني أشدد على استمرار محاكمة مبارك. ولو أنه حكم عليه بالإعدام في حالة إدانته سيكون شيئا عظيما'. ('الأخبار' 26 / 4 / 2011). ولن يكف خيري شلبي عن الشجاعة منتهية الصلاحية، وهو ينتقد 'مبارك وأهله غير الكرام'، ويجيب عن سؤال (أخبار الأدب): هل توقعت كل هذا الكم من الفساد؟ قائلا: 'أنا كنت أراه، وما خفي أكثر مما تم كشفه'. (15 / 5 / 2011(.
لم يشهد جمال الغيطاني هذا اللقاء. وكان قد كتب يوميات الأخبار، في الشهر التالي لإجراء مبارك جراحة في ألمانيا لاستئصال الحوصلة المرارية (مارس 2010)، تحت عنوان (قائد القوات) مشيدا بالسيرة المباركية، منذ أصغى إلى اسم اللواء طيار محمد حسني مبارك بعد عام 1967، وعرف أن من صفاته 'الإرادة الحديدية، الجلد، سعة الأفق، الذكاء، والسمعة الطيبة والعلاقات الحسنة مع الآخرين'. ثم قال 'حدثني' زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية أنه يعرض على الرئيس صحفا تتعرض عناوينها 'لشخص الرئيس وسياساته في سابقة تعد الأولى في الحياة السياسية المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة زمن محمد علي باشا، يقول الدكتور زكريا عزمي إنه لم يكن يبدي غضبا بل كان يبدي قدرا كبيرا من التسامح والصبر معلقا إنها الديمقراطية'، وفي السطور الأخيرة من يومياته الطويلة قال الغيطاني: 'لقد جنبت خصاله القيادية مصر الكثير من المخاطر في ظروف عالمية ومحلية مضطربة، ورغم كل المصاعب أشعر أن قلب مصر يتجدد، يموج بالحركة ويضخ الأمل، وعندما رأيت الصور الخاصة باستئناف الرئيس لنشاطه شرعت في تدوين هذه الشهادة التي تخص أبعادا عامة وخاصة تتصل بالرئيس وملامحه الإنسانية، وسعة صدره، وأيضا ما أكنه تجاهه من امتنان ومودة'. ('الأخبار' 28 / 4 / 2010).
يوميات الغيطاني، إذن، دافعها إنساني تجاه رجل مسن يعاني مرضا، ولا أحسبه في تلك المدة الزمنية القصيرة كان مشغولا بإعادة النظر في مبارك، حتى يقول في ندوة مساء الخميس 7 / 4 / 2011 إن نظام مبارك 'أسوء نظام مر على مصر... حتى من الاحتلال الأجنبي، فالنظام السابق جرف البلاد، ونهبها بكل طاقته، حتى إن المساحات المخصصة لهموم المصريين في خطابات مبارك تقلصت.. حتى اختفت تماما وحل محلها سخرية واحتقار وتجاهل'. (موقع 'اليوم السابع' 8 / 4 / 2011). وسيعجب صبري حافظ، ويعلق بشيء من القسوة على تبدل المواقف قائلا إن 'تاريخ جمال الغيطاني في خدمة نظام الرئيس المخلوع لا يقل نصاعة عن تاريخ مصطفى الفقي، كل في مجاله... هذا هو جمال الغيطاني الذي كان أحد خدام الاستبداد'. ('الشروق' 22 / 4 / 2011)، وفي المقال القاسي نفسه، قال صبري حافظ إن الغيطاني 'كان مع قرينه يوسف القعيد، أول المبادرين إلى مد أيديهم لأخذ ما يمكن من القصعة!'، وعلامة التعجب له.
بعض الذين شاركوا في لقاء مبارك، من حملة ذيل فستان الهانم، في أي جمعية أو مجلس تترأسه، ومن ذلك منصبها في مكتبة الإسكندرية، وكان إسماعيل سراج الدين مخلصا في ابتكار أوهام، على مقاس هوى امرأة نصف متعلمة، منها: معهد دراسات السلام، وحوار الثقافات، ومنتدى الحوار العربي. والرجل بحكم منصبه وصلاحياته ماهر، يجيد حشد جموع من عواجيز الفرح، للدردشة وطحن كلام سبق أن مضغوه، أو مضعه غيرهم، في السنوات الماضية، حتى أصبحت المكتبة قلعة لا علاقة لها بأهل الإسكندرية ولا مثقفيها ولا جامعتها، على الجانب الآخر من الشارع نفسه.
لم يكن هؤلاء مضطرين للخوض في المستنقع، ولا يشفع لهم أمام الشعب أن يقولوا إنهم أطاعوا سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل، بئس السبيل.
كنت أود أن يتسع المجال هنا لأثبت شهادة صلاح عيسى، وأضع لها عنوان (11 مثقفا بقلم صلاح عيسى)، وكثير منهم يصلحون نموذجا لما سماه المثقف الحرفي، وهو يعتبر الثقافة حرفة، ومن حق المثقف أن يقدم حرفته لصاحب السلطان، حتى انتقل 'من صلابة الاعتراض إلى مذلة التبرير'، ويقول أيضا: 'عرفنا مثقفين أقوياء فيهم صلابة حقيقية وشجاعة داخلية، تتوزع على مدى العمر، وتنمو مع التجربة، وتؤثر إيجابيا في بناء الآخرين، وأخرى فيها صلابة هشة تتجمع في موقف، أو تتركز في بضع سنوات، ثم تنكسر مع العمر فتنثني ولا تعتدل!... جيلنا من المثقفين العرب ـ مصريين وغير مصريين ـ سيدخل التاريخ من باب السيكولوجيا، لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر'. (صلاح عيسى: مثقفون وعسكر).
كنت قد سجلت، في الكتاب/الشهادة، أن الذين يدفعون بجمال مبارك إلى الصدارة، هم الذين كانوا من رجال مبارك، ورجال السادات، ورجال عبد الناصر. كانوا يرون الاتصال بإسرائيل في زمن عبد الناصر خيانة وطنية ودينية، ثم قالوا في عصر السادات إن الأعداء 'جنحوا للسلم'، وتحت يدي برقية بثتها وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية عام 2001، عنوانها (الرئيس مبارك يهنئ إسرائيل بعيدها) ويقول نصها: 'أوفد الرئيس محمد حسني مبارك السيد عمرو حسين جابر الأمين برئاسة الجمهورية إلى سفارة إسرائيل بالقاهرة للتهنئة بالعيد القومي'، الذي يعني بالطبع النكبة الفلسطينية، وقدم مبارك عام 2003 التهنئة لشارون بالفوز في الانتخابات، ولم يجد مؤلف كتاب (تشريح العقل الإسرائيلي) السيد يسين في ذلك ما يدعوه للدهشة، مثل دهشته حين تم 'ضبط' أتباع جمال مبارك، وقد سيقوا للاستماع إلى تصوره عن مستقبل السياسة في مصر. هؤلاء الذين ناداهم جمال فاستجابوا هم الغطاء الثقافي لمجموعة مظليين صغار مغامرين، استعان بهم في اختطاف البلد نحو عشر سنوات. راجعت سيرة عبد الوهاب المسيري، كان مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وسافر إلى الولايات المتحدة، ثم عاد عام 1979 في ظل سيادة أجواء التطبيع، وقال له السيد يسين مدير المركز آنذاك إن عودته تعني الانتحار، 'فكان ردي عليه أن الحياة حسب الشروط المهينة التي قد يضعها الآخرون ليست أمرا عظيما.. وقد يكون الانتحار هو أحسن اختيار. والانتحار في هذه الحالة ليس انتحارا وإنما استشهاد في سبيل رسالة... كنت أجد صعوبة شديدة في دخول مبنى الأهرام'. (رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمار).
لم يشعر علي الدين هلال أو السيد يسين أو مفيد شهاب بالنخوة والغيرة على 'الحرم الجامعي' الذي انتهك، على رؤوس الأشهاد، إذ جرؤ شهاب رئيس جامعة القاهرة، ووزير عدة وزارات في حكومات متوالية، على منح جمعية (جيل المستقبل)، وهي جمعية أهلية غير حكومية يرأسها جمال مبارك، مبنى في 'حرم' جامعة القاهرة، كان مخصصا لمعهد التربية.

* من كتاب للروائي المصري سعد القرش يفضح مواقف عدد من كبار المثقفين المصريين ممن يقدمون أنفسهم الآن باعتبارهم صناع ثورة الخامس والعشرين من يناير ، والكتاب سوف يصدر تحت عنوان ' الثورة الآن .. يوميات ميدان التحرير ' عن الهيئة العامة لقصور الثقافة . 



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق