الجمعة، 22 سبتمبر 2017

قصص قصيرة


اسمها بلد

كانت فخورة بنفسها، جميلة متألقة، يغازلها كثيرون، وبعضهم يراودها علناً عن نفسها، يتمنى الجميع رضاها، أو حتى نظرة باسمة منها.
كانت تزهو بنفسها دوماً، تعرف جيداً قدرها، وكيف أن نظيراتها لا يمكن أبداً مقارنتهن بها، وكانت تلك الصفات نفسها، في ظنها، تحميها من الآخرين.
الثقة الزائدة جعلتها لا تخشى شيئاً، كانت تسير وحيدة في أماكن منعزلة، في أوقات متأخرة، هي تدرك أن شهرتها لن تسمح لأحد بأن يتجاوز حدوده معها، لكن تلك الثقة نفسها كانت سبب المأساة.
بينما كانت تسير في طريق منعزل، اعترضها مجهول لا تعرفه لكنه يعرفها جيدا، اختطفها بعيداً، جرّدها من ملابسها وقام باغتصابها بلا رحمة.
هرولت إلى وسط المدينة وآثار الجريمة بادية عليها، روت للمارة قصتها، كانت تنتظر منهم التعاطف معها، والثأر لها. لم يظهر على أي منهم أي اهتمام.
لم يتعاطف معها أحد. راودها البعض عن نفسها، واتهمها أخرون بأنها تعشق الرذيلة.
عادت إلى منزلها والصدمة تغلف عقلها، لم تدرك كيف يمكن أن يتحوّل الجميع بتلك السرعة، ولا كيف أنهم بعد الولع والهيام، باتوا يعتبرونها فاجرة مارقة.
أقنعت نفسها بأنهم سيعودون إلى صوابهم. ربما يستفيقون ويدركون أنهم كانوا على خطأ. ربما ينتقم لها أحدهم، حتى ولو ممن لا تعرفهم. انتظرت يوماً، وانتظرت أياماً، لم يتغير شيء.
خطر في بالها أن تعود إلى نفس الطريق المنعزل. ربما يتبعها أحدهم ويجد من اغتصبها فيتم عقابه، والانتصار لشرفها المهدور.
قامت من فورها إلى الطريق. لم يتبعها أحد. لم ينتصر لشرفها أحد. بل ظهر المجرم مجدداً، وكرر فعلته الأولى نفسها.
كان ألمها هذه المرة مضاعفاً، لأن ثقتها بالبشر ضاعت إلى الأبد.
عادت إلى منزلها، لا تدري ماذا ستفعل في قادم الأيام، لا تعرف كيف ستعيش وسط هؤلاء الذين تحولوا عنها كلّياً.
قرّرت أن تعود يومياً إلى نفس الطريق المنعزل. لم يعد ما يفعله بها المجرم يزعجها، باتت تذهب إليه يومياً في نفس الموعد، وتنتظره إن لم يظهر. باتت تستعذب الاغتصاب.
الاستعذاب هو الوصف الأمثل فعلاً. هي لا تستمتع، بل تتعذب. لكنها باتت تعشق هذا العذاب الذي ينسيها عذاباً أقسى، سببه صدمتها بالمحيطين بها، ممن كانوا يبدون حبّهم لها.
القصة ليست عن فتاة وإنما عن حياة. بطلة القصة اسمها "بلد". والبلد ينطبق على كثير من البلدان، والواقعة جرت وتجري لكثير من الأوطان. يغتصبها أحدهم، فتظن أن أهلها سينقذونها، لكنهم يدعمون المغتصب ويتجاهلون شرفها، فتتحول إلى استعذاب الاغتصاب. تحت تأثير الصدمة وليس تحت تأثير الرغبة، أو قل كليهما معاً.

24 أغسطس 2014



مواطن شريف

يعود مساء إلى زوجته وطفليه ممسكاً بضعة جنيهات، وبعض الطعام مما يتفق مع زوجته قبل خروجه على شرائه. الزوجة أيضا تعمل، لكن عملها يدرّ مالاً أكثر لأنها تخدم في بيوت الميسورات.
هم نموذج عشرات آلاف الأسر المصرية، ممن لا يملكون عملاً ثابتاً، ولا مظلّة اجتماعية أو تأمينية توفر لهم الكفاف. خرج من بيته صباحاً قاصداً عمله البسيط، هو يعمل بائعاً جوالاً، يبيع كل شيء وأي شيء، في كل وأيّ مكان. 
يوم جديد مثل أيام كثيرة خلت، ليس معتاداً على ترتيب تفاصيل اليوم، يترك الأقدار تسير به إلى حيث تشاء، عادة يتعلق بباب أول "أتوبيس" نقل عام يمر به، حاملاً تلك الأشياء الخفيفة التي يبيعها، لا يعنيه كثيراً إلى أين يذهب الأتوبيس، هو في العادة يغادره بعد كيلومتر أو أقل، ليتعلق بباب آخر. بينما هو في انتظار أتوبيس في وسط القاهرة المزدحمة، ظهرت الشرطة في المكان، وظهر الارتباك على باعة الأرصفة، لم يأبه، هو ليس بائع رصيف، وعليه فالشرطة لا تهتم بمطاردته. فجأة أشار الضابط إليه وطلب منه أن يحضر إليه، فذهب متثاقلاً. نهره الضابط، فأسرع الخطى.
بدا الحوار عبثياً، هو لا يفهم لماذا يريده الضابط، هو لا يشغل مكاناً ولا يعطل الطريق. ظهر عليه الارتياب والارتباك لأنه لم يفهم، شكّ الضابط فيه، وطالب الجنود بتفتيشه، ولأنه لم يتعرض لهذا سابقاً، أظهر نوعاً من المقاومة، كان الرد عليها قاسياً. بات فجأة متهماً بمقاومة السلطات، ووضع في سيارة الشرطة متوجهاً إلى مركز الشرطة، هناك تم التعدي عليه من الجنود والمتهمين على حد سواء، وهناك فوجئ أنه متهم بحيازة أسلحة ومخدرات لا يعرف عنها شيئاً. 
بدأت ملامح الكارثة تتضح لديه شيئاً فشيئاً، بات يسأل عن سبب ما يجري له، قال له الضابط بوضوح: سأخرجك من كل هذا شرط أن تتعاون معنا. 
لم يفهم أيضاً، جاءه جندي مراوغ وبدأ يشرح له مقصد الضابط، بعد بعض الجمل والألفاظ من الجندي، رد ببلاهة: تريدون مني أن أكون مرشداً للشرطة؟ 
قال الجندي ببساطة: "نعم"، فردّ: "وإن رفضت؟"، قال الجندي: "ستحصل على حكم لن يقلّ عن خمس سنوات سجن، وفي النهاية ستصبح مرشداً أيضاً". 
نظر في عيني الجندي برهةً، ثم وافق بلا تردد، تغيرت المعاملة إلى النقيض، ذهب به الجندي إلى الضابط مجدداً، وبدأ الضابط يوضح له المطلوب، ومن بين ما قال: "أنت نموذج للمواطن الشريف الذي يدعم الشرطة في مساعيها لحفظ الأمن". 
ظلّت ترن في أذنيه جملة "مواطن شريف". لم يكن يدري أن تلك هي مهمة هؤلاء الذين يطلق عليهم "المواطنون الشرفاء" والذين كان يسمع عنهم منذ فترة. أخيراً فهم المقصود.

12 سبتمبر 2014



صباح صاخب

يبدأ اليوم صاخبا، كأنهما يرغبان في الشجار، يبحث عن سبب ليعلو صوته. لا يجد فيخترع سبباً. تواجهه بأنها لن تقبل منه تلك المعاملة. يطلب منها ألا يعلو صوتها في المقابل، رغم أن صوته مرتفع. يعلو صوتها أكثر، تتحول دون وعي منها إلى اختراع أسباب تحت تأثير غضب غير مبرر. يتبادلان ألفاظا حادة بنبرات صوت عالية، قلما تظهر في هذا المنزل الهادئ، قبل أن تسود فترة من الصمت.
ينظر كل منهما إلى الآخر، وكأنه يلومه. فجأة يمد يده إليها بحنان، تلقي بنفسها في أحضانه. تنتهي "مصارعة الديكة" التي كانا طرفيها سريعا، كما بدأت سريعا. يتبادلان كلمات حب، ثم يفيقان على حقيقة أن حبهما لا يمكن أن يعيش بهذه الحال. 
يجلسان، يديران حواراً عاقلاً كما اعتادا، لا يتحدث أي منهما عن سبب الأزمة، ولا الطرف المخطئ. يتحدثان عن المستقبل، عن وسيلة لعدم تكرار الخلاف، عن أسباب الفتور، عن طرق إبقاء تلك العلاقة متوهجة. يقول إنه يشعر بالضعف أمامها، رغم أن الضعف ليس من صفاته. تؤكد أنها حاربت العالم من أجله. 
يقول إنه بات متعلقا بها لدرجة الجنون، فترد أنها أحبت فيه قوته وليس ضعفه. يتابع أنه منزعج من إصرارها على رأيها، تعاجله أنها اعتادت أن تتخذ قراراتها منفردة. تسود فترة صمت مجددا. تعاود فتح الموضوع قائلة: "أنت تشعرني أحيانا وكأنني جارية في بلاط مملكتك". يرد سريعا: "بل أنت ملكة متوّجة على عرشي". تقول: "إنك عادة تغار بجنون وأنا أكره الغيرة"، فيقول: "وكأنك لا تغارين أو كأن جنون غيرتك أقل من جنون غيرتي". يبدأ صمت جديد، يقطعه بأن يحيطها بذراعه قائلا: "يبدو أن قوة حبنا وتعلقنا ببعضنا هي أزمة علاقتنا"، تكمل هي: "أشعر أحيانا أن انشغال كل منا بتدليل الآخر والتغاضي عن أخطائه سبب ما نحن فيه". يقول وقد استوى في جلسته في مواجهتها: "هل يعني هذا أننا في حاجة إلى الابتعاد عن بعضنا بعضا قليلا حتى نتجاوز ما نحن فيه؟". لا ترد، لكنها تنظر مباشرة إلى عينيه بنظرة يعرفها ويفهم مرادها جيدا. يرد على نفسه: "أعرف أنني دائما من يرفض هذا الحل الذي كنت دوما تقترحينه، لكن تعالي نجرب". 
تقول واضعة يديها بحنان على خديه: "لكني لا أرغب الآن في الابتعاد عنك، ما رأيك أن نحصل على إجازة ونذهب إلى مكان بعيد؟". ينتفض واقفا. يخرج من سترته مغلفا، يفتحه ويخرج تذاكر سفر سبق أن ابتاعها، يناولها إياها. تنظر فيها مليا، تلفظ اسم المكان الذي اختاره لإجازتهما فرحة، كانت تحلم به، وكان يعرف. تحتضنه كما طفلة صغيرة، فيقبّل جبينها.

19 سبتمبر 2014


حب عابر سريع

يعرف كلاهما الآخر جيداً بسبب علاقة طويلة، أو هكذا كانا يظنان، بعد زيجة استمرت سنوات اكتشفا أن أياً منهما ليس مناسباً للآخر. 
جلسا سوياً، صارح كل منهما الآخر، توصلا في النهاية إلى أن ما بينهما لم يكن حباً، وإنما مراهقة تسببت في بقائهما معا لسنوات، قبل أن ينضج كلاهما ويقررا التحرر من تلك العلاقة للأبد. قالت له "أنت تقتل روحي"، فقال لها "وأنت تقتلينني ببطء". 
انفصلا، مع وعد بأن تبقى صداقتهما قائمة، وأن يسأل كل منهما عن الآخر ويتابع أخباره، لكن الأيام قالت كلاماً مغايراً. 

هو تتنازعه أحاسيس متباينة بعيداً عنها، خرج من علاقة عاطفية قوية ليجد نفسه وحيداً ضائعاً، كارهاً للحب ولكل ما يمت بصلة للعلاقات الرسمية، أقنع نفسه أن الوحدة كنز لا يفنى، وأن الحرية تاج على رأس الأعزب. عاش لفترة مصدقاً ما أقنع نفسه به. 

لكنه سريعاً وجد أنه تختطفه علاقات سريعة مضطربة، كان يسميها في البداية "نزوات"، لكنه اكتشف لاحقاً بعد تفكير أنها ليست إلا محاولات للهروب من تكرار التجربة السابقة، والتي تركت في نفسه جرحاً غائراً. ظن في البداية أنه يمكن أن يتنقل مثل النحلة على أزهار مختلفة، وأن يعيش كل فترة ما اصطلح على تسميته "حب عابر سريع". 

كان الأمر بالنسبة له تجربة جيدة في البداية، من ذا الذي يكره التغيير، ومن الذي لا يرغب في علاقات بدون أدنى التزامات، لكنه بعد فترة قصيرة وجد نفسه ضائعاً مجدداً. 
وفي المقابل، هي قررت التحرر الحقيقي منه، دخلت في علاقة عاطفية، ثم علاقات أخرى، لم تكن ترغب في حب ولا ارتباط جديد، وإنما في نسيان حب قديم. كانت ترغب في "حب سريع عابر". 

لكنها سريعاً باتت تقارن به كل رجل جديد تعرفه، تنتظر من الرجل الجديد أن يعاملها بنفس طريقته، أن يحدثها بنفس كلماته، اكتشفت لاحقاً أن سيطرته عليها لن تمكنها من التعرف إلى غيره. ظل طيفه يطاردها، ظلت تعتبره نداً لكل شخص تعرفه. 

كان الأمر بالنسبة لها تجربة جيدة في البداية، من ذا الذي يكره التغيير، ومن الذي لا يرغب في علاقات بدون أدنى التزامات، لكنها بعد فترة قصيرة وجدت نفسها ضائعة مجدداً. 
التقيا فجأة، دون ترتيب، أو ربما هو ترتيب القدر، تسابقا تجاه بعضهما، كاد أن يحتضن كل منهما الآخر، لكنهما توقفا قبل لحظة واحدة، دار حوار عبثي بين عيونهما، كل منهما يلقي المسؤولية عن فشل العلاقة على الآخر، لا يريد أي منهما الاعتراف بالخطأ، أو إظهار ضعفه. 
لم ينطق أيهما بكلمة، استدار كل منهما وسار بعيداً عن الآخر، لم يلتفت خوفاً أن يضعف أو يتراجع. لسان حال كل منهما يقول: سأجرب مجدداً، لن أعود لتلك العلاقة.

24 أكتوبر 2014


هالووين الوطن

عادا من حياة مستقرة في بلد مهجرهما إلى بلدهما الأم، مدفوعان بشعارات الوطنية والانتماء والبقاء بالقرب من الأهل والحنين إلى مسقط الرأس والجذور والهوية. 

حاولا مرة ومرات التأقلم مع الحياة في بلدهما بعد بضع سنوات من الغياب عنه، كانا يدركان الكثير من التفاصيل حول ماهية العيش في بلدهما الشرقي ذا السمت المحافظ، كانا يفهمان الكثير من الأمور المحظور عليهما اقترافها، والكثير من الأمور الواجب فعلها، لكن يبدو أن تلك السنوات القليلة في الخارج، والحياة في بلد مختلف يؤمن بحق الانسان في البهجة وبحقه في تحصيل كل ما يلزمه للسعادة، وعدم تدخل أحد في حياته أو إزعاجه، وغيرها من الفروق الجوهرية، جعلتهما ينسيان أو يغيب عنهما ما كان عليه الوضع في بلادهما. 

في كل مناسبة، وفي كل موقف، يصدمهما الناس وتفاجئهما الأعراف والقوانين، وكأنهما ولدا خارج هذا البلد الذي يحملان جنسيته، والذي قضيا القسم الأكبر من حياتهما فيه. 

"إنه الهالووين"، اتصل بها متهللاً، فردّت بسرور: "تعال نرتّب ما يمكن أن نفعله للاحتفال". في المساء التقيا، استعادا عدداً من ليالي الهالووين التي قضياها في بلد مهجرهما، وحجم السعادة التي كانا يشعران بها وسط مئات الأشخاص الذين يخرجون إلى الشوارع والطرقات للاحتفال. 

قررا أن يحظيا بالسعادة في يوم الهالووين مهما كانت العواقب، ارتديا ملابسهما سريعاً وخرجا إلى المتاجر في محاولة للبحث عن مستلزمات الاحتفال، الأشياء قليلة، معظم المتاجر لا تعرف عن المناسبة شيئاً بالأساس، بعض أصحاب المتاجر نظر إليهما باستهجان، وآخر سألهما إن كانا ملحدين. 

صدمتهما ردود الأفعال قليلاً، لكنهما درّبا نفسيهما منذ العودة على امتصاص الصدمات وتحمّل ردود أفعال مواطني بلدهما، هما يقنعان بعضهما البعض دائماً أن "الناس تعاني الكثير من المشكلات التي تنعكس على طبيعة تعاملهم مع الآخرين"، وأن عليهما "التحمّل والصبر ومقابلة الإساءة بابتسامة لطيفة". 

رغم الاحباطات المتتالية، لم تضعف رغبتهما في الاحتفال، ولم يتوقفا عن البحث عن مستلزمات الحفل، باتا يختاران أشياء لا علاقة لها بالهالووين، لكن يمكن بشكل ما توظيفها أو استغلالها. 

الاصرار على تحصيل السعادة، كان العامل المشترك الأساسي بينهما، كليهما حريص على البقاء في الوطن، كلما شعرا بالاحباط، ذكّر أحدهما الآخر بإحساس الحنين الذي كانا يشعران به في الغربة. 

فجأة قالت له بوهن: "إلى متى نتحمّل؟"، فعاجلها قائلاً: "تعالي نهاجر مجدداً". 

ساد صمت طويل، ثم تكلما في اللحظة نفسها. لقد قررا الهجرة ثانية في النهاية.

31 أكتوبر 2014



تجربة فاشلة

عشقت أباها، كانت تكره أمها التي تعاملها باعتبارها كائناً بلا قيمة، لم يكن هذا سر عشقها لأبيها الوحيد، كان الرجل يستحق باعتباره نقيض الأم، لكن عشقها لأبيها دمرها على المدى البعيد. 
مات الأب، فزاد تسلّط الأم، فقدت الفتاة مَن يناصرها، باتت تهرب من المنزل تحاشياً للصدام مع أمها، وافقت على العمل رغم حداثة سنّها، عمل شاق وتحرّشات وسخافات، لكنه أهون من البقاء في وجه تلك المرأة، التي تَصَادف أن تكون أمها. 
مبكراً تعلّقت بشاب يكبرها بأعوام، رأت فيه صورة الأب الراحل، لم تكن جاهزة للزواج ولا حتى للحب، لكنها قررت أن تعتبره سفينة نجاتها. 
لم يقاوم الشاب كثيراً، هي جميلة وصغيرة، مطالبها قليلة، وأهلها متوسطو الحال، ما يعني أنه، كشاب، لا يملك من حطام الدنيا الكثير، إلا قدرته على العمل وتطلّعه للمستقبل، وقادر على أن يتزوجها. 
تزوجا، تم الأمر كله سريعاً، كانت هي متعجّلة للفرار للأبد من سجن أمها، وكان هو متعجلاً لتحصيل ما اعتبره فرصة لا تعوّض. 
عملا معاً بجد، بدأت حياتهما العملية تثمر وزاد دخلهما معاً، باتا قادرين على الحصول على منزل، أصبحت هي في العشرين، وهو في نهاية العقد الثاني، كانا لسنوات يرفضان الإنجاب، خوفاً من تصاريف الزمن، أو بحسب قوله مرة: "الحمل والإنجاب سيعطلانا عن العمل". 
قرّرا الإنجاب، كان متردداً، بينما كان لديها إصرار عجيب، كأي فتاة ترغب في أن تعيش الأمومة، أن تحمل وتلد وتربي. غريزة الأمومة كانت مسيطرة عليها، بينما غريزة جمع المال كانت تجعله يقاوم بقوة. 
تجلس إلى نفسها، هي حريصة على ألا يصاب طفلها القادم بما عاشته من آلام نفسية، بسبب معاملة أمها لها، تنتهي إلى أنها ستعامله باعتباره مالك حياتها وملاك روحها، وليس فقط ابنها. 
تنجب، يبدأ تركيزها مع الطفل يتنامى يوماً بعد يوم، تنشغل عن الزوج الذي يجد نفسه على الهامش، مقارنة برجلها الأول الذي أنجبته. الدلال الذي يناله الطفل يتجاوز الحدود ويضعه على أبواب النرجسية، رغم حداثة عهده بالدنيا. 
الزوج المنبوذ في بيته، يلجأ إلى أخريات يعوّضنه عن غياب زوجته المنشغلة بطفلها، تتعدّد علاقاته النسائية، يتكرر غيابه عن المنزل. ينغمس في عالمه الجديد. 
تكتشف هي خياناته، تواجهه، فيواجهها، يكتشف كليهما مدى التباعد بينهما، اتّسعت الهوّة حدّ عدم قدرة أيهما على التراجع، أو التنازل عمّا بات عليه. 
يبحثان الانفصال بعدما بات حلاً وحيداً. لكن كيف العمل في أموال جمعاها معاً خلال سنواتهما الزوجية؟ ومَن يتولى الإنفاق على الطفل؟ 
يجلسان للاتفاق، بعد نقاش يصلان إلى نتيجة مفادها: "ما كان ينبغي أن نتزوج؟".

7 نوفمبر 2014



علاقة ملتبسة

لم يعد يهتم بكثير من الأشياء من حوله، بات يتعامل مع الحياة باعتبارها طيفا عابرا، ينتظر كل يوم أن يمر اليوم، يدعو ربه أن تمر الحياة، الطيف، سريعا حتى يتخلص من تلك الأحداث الكئيبة والمشاعر المختلطة التي مر بها في العام الأخير. 

كان في سنواته الماضية مقبلا على الحياة، ينهل من ملذاتها ويستعذب مباهجها. كان كثيرون يحسدونه على ضحكاته وقدرته على الاستمتاع، وعلى حظوظه التي جعلت منه شابا محبوبا من زملائه، يملك الكثير من الأصدقاء، يعيش علاقات عاطفية متعددة، يزدهر عمله سريعا بسبب اجتهاده وقدراته. 

فجأة قرر أن ينزوي بعد أن عاش تجربة مريرة. تجربة غيرت حياته بالكامل، وحولته من النقيض إلى النقيض. 

كعادته لا يرغب في أن يروي حكايته، يعتبرها سرّه الدفين، يواصل التذرع بأن ما جرى له لا يعني أحدا، وأنه سيتحمل مسؤولية ما جرى وما سيجري لاحقا بسبب المعاناة التي يرى أن الآخرين لا دور لهم فيها. 

فجأة ظهرت في حياته، كانت فتاة مختلفة بالكلية، ليست من النوع الذي يفضله، جاءت في التوقيت الخاطئ تماما، لم تكن تحاول إغواءه أو لفت نظره، ولم يكن أصلا جاهزا لعلاقة جديدة. 

عاملها بفتور بالغ، كاد في مرة أن ينهرها لأنها حاولت أن تظهر اهتماما به، بدأ يتحول إلى شخص فظ في حضورها، على غير عادته تماما. 

أصبحت تتفادى أي احتكاك مباشر معه، أو الدخول في حوار مشترك يضمه، باتت تتحسس من ردود فعله الغاضبة، وألفاظه المتهورة. 

كان سعيدا بهذه النتيجة، نجحت خطته في إبعادها عنه، كان يكرر لنفسه: لن أكرر تجربة الحب مجددا، كفاني ما جرى، ويعلن على الملأ في وجودها أن الحياة بدون نساء هي الجنة، وأن النساء هن الجحيم. 

تزايد الجفاء بينهما لدرجة ملحوظة من الآخرين، بات البعض يحدثه، ويحدثها، عن ضرورة إنهاء هذا الوضع الملتبس، هما في النهاية زملاء عمل يجمعهما مكان واحد. 

تماديا في الغضب، باتت أيضا تعامله بجفاء أمام الجميع، ربما ردا على معاملته لها، أصبحت علاقتهما أكثر التباسا. 

بالمصادفة، وربما ليست مصادفة، تقرر أن يعملا معا في مشروع مشترك، كان الأمر بمثابة التحدي لكليهما. 

بادرت هي إلى فتح حوار معه، لن يمكنهما إنجاز العمل إن ظلت علاقتهما بهذا الالتباس، لم يعترض، بل تفهم الموقف بدعوى الحرص على العمل. 

جلسا سويا للاتفاق على طريقة تعامل متبادلة، تضمن لهما ألا يفسدا العمل الموكل إليهما. 

بعد كلمات مقتضبة عن ضرورة منح صالح العمل أولوية، وتجاوز الخلاف، قالت له بتردد: أنا أحبك. 

انتظرت أن يقابلها بغضبه وفتوره المعتادين، لكنه أجابها بثقة: وأنا أحبك أيضا.

14 نوفمبر 2014



نوستالجيا الثورة


يواصلان النقاش بشكل شبه يومي. يتذكران ما مرا به خلال السنوات الأربع الماضية. تضررا منه بلا شك، لكن حرصهما على مواصلة ما بدأ على الأرض وشاركا فيه بجدية، مثير للعجب، وسط مظاهر إحباط ويأس واسعة من حولهما.

يحاولان دوماً استرجاع ما بقي لهما من حكايات. يلملمان بقايا ذكريات متناثرة عن أحداث بعينها، بعضها يبدو كأنه مازال حيّاً، أشخاص ومواقف، نجاحات وانكسارات، أفراح وأتراح، يضحكان أحياناً، لكن الوجوم يسود وجهيهما في معظم الأوقات. فجأة يهللان لبعض الوقت، قبل أن يطغى الحزن مجدداً على ملامحهما.

يُذكرُها بصديقهما المشترك الذي كان رفيق ميدان الثورة لشهور، ويبدأ في حكاية بعض مواقفهم المشتركة عندما كانوا في المسار نفسه. تصب هي اللعنات على الصديق وسيرته، فيتوقف هو عن السرد. لا تنسى، أبداً، أحداثاً لاحقة كان هذا الصديق السابق فيها عدواً لدوداً، بل وأحيانا كثيرة محرضاً على سلامتها وسمعتها.

في المقابل، تُذكرُه بالشخصية الشهيرة التي كانا يثقان فيها ويدعمانها، وأين أصبح بعد أن كان قد ملأ السمع والبصر، يتلفظ هو بشتائم متنوعة يلصقها بتلك الشخصية، فتتوقف هي عن السرد. لا ينسى أبداً أنه انقلب على كل المبادئ التي روج لها، وأنه خان كل ما أقنعهم به وجعلهم، وغيرهم كثيرون يلتفون حوله.

بمرور الوقت أصبح كلاهما خبيراً في إدارة الحوار حول "نوستالجيا الثورة"، وأيامهما فيها، سواء تلك السعيدة والحزينة، الآمنة والخطرة، تهيمن دوماً على حديثهما، باتا يعرفان متى يطلقان العنان للحديث، ومتى يتوقفان، ما يمكن أن يقال، وما لا حاجة لتذكره.

مع كل واقعة جديدة أو تصريح مثير، يعودان لربط الخيوط ببعضها، يوماً بعد يوم يتكشف لهما الكثير مما سبق أن غاب عنهما. كلما جرت في النهر مياه أكثر، كلما بات الماء رائقاً، وكلما وقعت في الوطن أحداث، كلما تكشفت أسرار أحداث مضت.

يضحكان أحياناً، ويبكيان كثيراً كلما جال بخاطرهما ذكرى أيام طويلة قضياها فيما يطلق هو الآن عليه "العبث الثوري بلا طائل".

ترفض هي بشكل يبدو مكرراً، ذاك المصطلح الذي يحرص على تكراره، هي ترى أن كل ما مر بهما كان ينبغي أن يمر، وأن التجربة هي السبيل الوحيد للتعلم. ما يراه هو "عبثاً ثوريّاً"، تعتبره هي "تجربة ضرورية".

هو متيقن أن "الفجر قريب"، وهي ترى أن "ضوءاً في نهاية النفق"، لكنها لا ترى نهاية النفق قريبة، في حين يكرر هو أن النهاية أقرب مما تتخيل.

لم يفقد أيهما الأمل أو يتخل عن إيمانه بضرورة استكمال ما بدأ. يختلفان فقط حول التوقيت وبعض التفاصيل، هي ناقمة تدعو للقصاص، وهو غاضب يطلب الانتقام.

23 يناير 2015



حقنا في الحياة

جلس صديقي مهموما يشاهد نشرة أخبار منتصف النهار، تعرض مشاهد لحروب وصراعات، وأخبار قتلى ودماء في أنحاء المنطقة، من العراق إلى سوريا إلى اليمن ومصر والسودان إلى ليبيا وتونس. قال بغضب: "العالم بدون العرب سيكون أفضل كثيرا. العرب لا يسببون إلا المشكلات". 
لم يكن صديقي غاضبا من مشاهد الدمار التي يشاهدها فقط، رغم أنها جعلته على وشك الانهيار، كان غضبه الأكبر منصبا على الشعوب التي تقبل أن تتكرر تلك المصائب، وتنتقل من بلد لآخر، دون أن تحرك ساكنا. 

يتذكر فجأة حوارا مع صديق عمره الذي يرى أن الشعوب العربية لا يمكن أن تحكم إلا بالحديد والنار. الصديق الآخر يرى أن ما يسميه الآخرون "الربيع العربي"، ويصر هو على تسميته "الخراب العربي"، ليس إلا وبالا على المنطقة، وأن الشعوب العربية لا تستحق الحرية، لأنها لن تستطيع دفع تكلفتها الباهظة، ولن تستطيع أن تتحمل مسؤولياتها بعد أن ظلت لقرون تترك تلك المسؤولية للحاكم وحده. 

ظل صديقي معارضا لرأي صديقه طيلة السنوات الأربع الماضية، هو يرى أن الشعوب تستحق الحرية، وأنها تحتاج فقط للوقت لإدراك مزايا الحرية، وفهم كيفية استخدامها وتحمل المسؤوليات اللازمة لها. هو على النقيض لا يرى شعوب المنطقة المتطلعة للتحرر على خطأ، ويصب دوما غضبه على الحكام الذين قهروا شعوبهم، حتى تحولوا إلى ما يشبه مسوخا بلا عقل لا تفهم إلا ما يقوله الحاكم، حتى إن كان مخالفا للعقل والمنطق. 

في وقت سابق كان صديقي حريصا على النقاش والجدال مع كثيرين، حريصا على إبداء وجهة نظره، يتأرجح بين التسامح والحسم، لكنه لم يتخل يوما عن المبدأ الأساس الخاص بضرورة إزالة حكم الفرد، ومنح الشعوب حرية اختيار من يحكمها وفق انتخابات حقيقية، والتعامل مع الحاكم باعتباره شخصاً يعمل لدى الشعب، مهمته الأصلية تنفيذ رغبات من يحكمهم وليس العكس. لكن بمرور الوقت بات صبره قليلا، وبات يغضب سريعا، وينزوي لأيام، حتى إنه بات يكره التواجد في تجمعات تضم آخرين يعبرون عن أراء لا تعجبه، أو بالأحرى لا توافق رأيه الخاص. 

وبعدما كان حريصا على حرية الشعوب العربية، يناضل لجعل الآخرين يدركون أن حريتهم حق وليس منة من الحاكم، بدأ حماسه يخبو، وبدأ يكره هؤلاء الذين يراهم حريصين على البقاء في قيود العبودية، لمن يملك السلطة أو المال أو السلاح. 
لاحقا بعدما زاد الدم المسال وانتشر في دول عربية أكثر، قرر أن يصب غضبه على العرب جميعا، وبات شعاره "العالم بدون عرب أفضل كثيرا". استفاق فجأة قائلا: ما زال حقنا في الحياة قائما. سنعيش. لا بد أن نعيش. وسنعيش أحرارا.

20 فبراير 2015


نزهة ضائعة

يتحمّس فجأة لنزهة. يرغب في مغادرة المنزل الذي مر على بقائه فيه أكثر من عشرين ساعة متواصلة. الجو صحو ويشجع على التريّض. فرصة لن يضيعها، وخاصة أننا في أوائل أبريل/ نيسان. 
الحرارة في البلد الذي يعيش فيه حارقة في الصيف، والأسوأ منها نسبة الرطوبة التي لا تترك للرئة فرصة لتبادل الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، ولا تترك للروح فرصة للهرب من الحوائط المغلقة والنسيم المصطنع الذي يصدره مرطب الهواء. 
درجة الحرارة ثلاثين، ولا أثر للرطوبة تقريباً. جو مثالي بالفعل للسير في مكان مفتوح، فرصة ربما لا تتاح إلا بعد شهور. 

فكّر أن يذهب إلى شاطئ البحر ليستمتع بالتريض قريباً من الماء، ويحظى في الوقت ذاته ببعض اليود الذي يطلقه ماء البحر في الهواء. 
قرّر ارتداء ملابس رياضية، ثم تذكّر ضرورة البحث عن "مضاد الشمس"، بحسب توصية الطبيب. فات على آخر مرة استخدمه عدة شهور، يقال عنها فصل الشتاء. لكنها أيام لطيفة تحتاج فقط اصطحاب معطف في السيارة لاتّقاء لسعة برد قد يصادفها ليلاً. بحث قليلاً فلم يجده. لم يجهد نفسه طويلاً بالبحث، فهو حريص على النزهة. قرر الاستغناء عن واقي الشمس. ترك هاتفه وكمبيوتر محمول وكمبيوتر لوحي، ثلاثتها لا تفارقه تقريباً، لكنه هذه المرة سيتجاهلها. إنها أجهزة تحوّل سجيناً لها. 

قبل أن يبدأ ارتداء ملابسه، بحث عن مفتاح سيارته. آخر مرة ركب السيارة كانت قبل أسبوع. لم يجد المفتاح، لكن ذلك لم يثنه عن قرار النزهة. قرّر أن يمشي إلى حيث يريد أن يتنزه، وأن يعتبر ذلك جزءاً من نزهته وتريّضه. 
أخرج ملابس الرياضة، كانت شتوية ولا تصلح للطقس الذي كان سبباً رئيساً في دفعه للتريّض. تذكّر أن ملابس الرياضة الصيفية في حقيبة جمع فيها ملابس لا يرتديها في الشتاء. أحضر الحقيبة وأخرج منها ملابس زاهية يحبها، هو حريص على الاستمتاع بنزهته قدر المستطاع. 

ارتدى ملابسه أخيراً، وهمّ بالخروج مصطحباً مفتاح المنزل وبعض المال فقط. 
فجأة صدح صوت هاتفه. إنها النغمة التي خصّصها للعمل. تثاقل في التقاط الهاتف. فكّر ألا يلتقطه وأن يخرج. أوهم نفسه للحظة أنه إن لم يعرف الغرض من الاتصال، فإنه لن يتحمل وزر ما قد يترتب على عدم إجابته. 
كاد أن يقرر ألا يجيب، ثم استعاد بعضاً من تعقّله والتقط الهاتف، وكله عزم على ألا يفسد الاتصال نزهته، وألا يستسلم لطلبات المتصل مهما كانت. 
أجاب: "نعم"، فعاجله صوت يعرفه جيداً: "نريدك في المكتب. الأمر عاجل". 
حمل حقيبة الكمبيوتر وخرج مسرعاً والهاتف بيده دون أن يدرك أنه يرتدي ملابسه الرياضية. استوقف أول سيارة تاكسي وأعطاها عنوان العمل.

3 أبريل 2015



يوم عادي جدا

يستيقظ مبكراً وكلّه نشاط ونية لإنجاز الكثير من العمل. يقضي وقتاً قصيراً في تشذيب شعر ذقنه، ثم يحظى بحمّام سريع يشعره باستفاقة يحتاجها في بداية النهار. يتعطّر ويرتدي ملابسه سريعاً، ويصحب أجهزته وأدواته ويتحرّك باتجاه سيارته الرابضة في مكانها اليومي. 

في طريقه إلى مقر عمله، يسمع نشرة أخبار صباحية. يصدح صوت مقدم النشرة عبر مذياع السيارة بأرقام قتلى ومصابين، وتفجيرات واقتحامات. يحاول التركيز قليلاً. أي بلد هذا الذي يتحدث عنه مقدم النشرة؟ يكاد يعرف اسم البلد، لكن خبراً جديداً يبدأ عن بلد آخر، وفيه نفس العناوين: قتلى ومصابون، وتفجيرات واقتحامات. يتنبّه إلى أن الوضع شبه متماثل، فقط أسماء المدن والمناطق تتغيّر، حتى أنه يلحظ تشابها في بعض أسماء الأماكن. 

يعود إلى محاولة تصفية ذهنه، والتي بدأ بها يومه، فيحوّل مؤشر الراديو إلى إذاعة الأغاني القديمة التي يحبها. يأتيه صوت عزيزة جلال "من حقك تعاتبني. من حقك تحاسبني. لكن مش من حقك. في عواطفي تكذبني". هو يحب المطربة، ويحب الأغنية. يدندن معها قليلاً. فجأة ينتبّه إلى أن الطريق فيه تصليحات، وأنه مضطر إلى قطع مسافة أكبر في طريق بديل ليصل إلى العمل. 

الطريق البديل متكسر بعض الشيء. يُقلق اضطراب السيارة مزاجه، ويفسد استمتاعه بالأغنية، خاصة وأنه بات مضطراً للتركيز في تفاصيل الطريق الذي لا يعرفه، ما يخرجه عن التركيز في مشاعر وأحاسيس تتابع على حنجرة مطربته الأثيرة. 

يحاول إبعاد طيف التوتر. هو يعيش توتراً شبه دائم، سببه ظروف شخصية ومهنية مركّبة. عادة ما يشعر أن العالم كله ضده، وأحياناً يقرّر أنه جاء إلى هذا العالم في هذا التوقيت بالخطأ، ثم يواجهه الآخرون بعكس ما يعتقده. 

الشائع عنه أنه لا يهتم كثيراً بما يجري من حوله من مشكلات، وأنه يعيش حياته منفصلاً عن الواقع، ليحظى بسعادة يحرص عليها، مهما جرى، وأنه أحياناً يصور للآخرين أنه كائن بلا مشكلات ولا أزمات، يتفنن في قضاء الوقت، ويعشق التغيير والانطلاق. 

في قرارة نفسه، يعرف أنه يفعل ما يلاحظه الآخرون، وربما يفعل أكثر مما يلاحظون أيضاً. لكنه يدرك أنه يفعل هذا في محاولة جادة ومتكررة للهرب من الظروف المحيطة، وأنه ليس منفصلاً عنها وإنما حريص على الانفصال عنها. 

يصل إلى مقر عمله. يشاهد شيئاً مريباً. الزحام اليومي المعتاد غير قائم، أماكن توقف السيارات متاحة على غير العادة، المكان شبه خاو. 

يترجّل ويتوجه إلى البناية. يقابله الحارس بنظرة استنكار. لا يعبأ. يتوجّه إلى المصعد. بدأ التوجّس يتسرّب إليه، يعاجله صوت الحارس من خلفه: اليوم عطلة يا سيدي.

10 أبريل 2015


انتحار شاب

ولد قبل ربع قرن من الزمان، كان هذا الحاكم قابعاً على كرسي السلطة، وكان هذا الأب في نفس المهنة، وكانت البلاد على نفس الحال من قمع وتكميم أفواه، وغياب لعدالة توزيع الثروات، واستئثار طغمة قليلة مقربة من السلطة بكل المزايا. 

منذ ربع قرن ومنزلهم على حاله لم يتغيّر فيه إلا حاجيات قليلة كان تجديدها ضرورة بعد أن بليت. على مدار ربع قرن لم تتغير ظروفهم المعيشية إلا نذراً يسيرا بعد أن سافر الوالد لعام ونيف إلى دولة مجاورة غنية ليعمل، وعاد محملا ببعض الأجهزة المنزلية التي لم يكن أطفاله يعرفونها سابقا. 

في مدرسته لم يكن أمامه إلا الاجتهاد، فالوالد يكرر دوماً على مسامعه ومسامع أشقائه، أن الحل الوحيد أمام أبناء الطبقة الوسطى التي ينتمون إليها هو التعليم، وأنه لن يترك لهم ميراثا وإنما سيحرص على تعليمهم جيدا. 

في جامعته الحكومية، كانت الأمور تسير وفق آلية محددة من الفساد والمحسوبية، ابن الأستاذ أستاذ، وأبناء العوام يظلون من العوام، لكنه قرر أن يجتهد أيضا، كما قرر أن يغامر بخوض انتخابات اتحاد الطلاب، ليكتشف أن في الانتخابات الطلابية الكثير مما يسمعه عن ألاعيب الانتخابات النيابية في بلاده. 

تخرّج من جامعته شابا يافعا مشرقا، يحدوه الأمل بمستقبل حقيقي يناسب طاقاته وأحلامه. باغته طلب وصله للتجنيد الإلزامي، لم يكن في حسبانه أن يضيع عاماً أو أكثر في الخدمة العسكرية، فكّر أن يتهرب، لكنه أدرك سريعاً أن السلطة التي فرضت التجنيد جعلته قيدا لا يمكن لأحد الفكاك منه، وأنه بدون إنهاء تلك المهمة السخيفة لن يستطيع أن يكمل مسيرته، فخاض تجربة عام هو الأسوأ له منذ ميلاده. 

بعدها ورغم مرارات التجنيد التي تركت ندوبا في نفسه وجسده، بدأ يطرق أبوابا كثيرة بحثا عن عمل، الفرص محدودة في ظل بطالة خانقة تتوازى مع توزيع غير عادل لفرص العمل لاعتبارات لا علاقة لها بالكفاءة وإنما بقدرات العائلة على الدعم والبحث عن وساطات. 

مرّ على تخرّجه ثلاثة أعوام، لم يجد فيها عملا حقيقيا يناسب شهادته ولا قدراته، ثلاثة أعوام كانت كفيلة بجعل حماسته المتقدة تخبو وأحلامه في مستقبل لامع تنطفئ، بات همه إيجاد عمل، أي عمل، حتى أنه فكر في الهجرة، رغم أنه بلا خبرات تؤهله في سوق العمل. 

تقلّب بين أصدقاء السوء ومروّجي الخزعبلات، عاش لفترات متقطعة تائها لا يعرف بوصلة طريق، سمع من قرروا مقاومة السلطة للحصول على حقوقهم، وسمع آخرين قرروا اعتزال الحياة والانزواء، ثم سمع مجموعة من أقرانه تناقش فكرة الانتحار الذي لم يكن يخطر له يوما على بال. 

أعجبته الفكرة الأخيرة.

8 مايو 2015



بوصلة الهروب

بعدما احتدمت المواقف في مصر في أعقاب ثورة شاركت فيها، ولما اكتشفت أن حال البلاد لن ينصلح بإرهاصات ثورة تواجهها ثورة مضادة أقوى وأكثر شراسة وتنظيماً وتمويلاً، عزمت على الرحيل عن مصر. 

كان ذلك نهاية عام 2011، ولا أعرف الآن إن كان قراري هذا منبعه وهن داخلي أم صدمة شخصية ممّا آلت إليه ثورة كنت أحد من يعتبرونها الحلم، أم فرار بنفسي وعقلي وما أؤمن به من أتون صراع ربما لن ينتهي قريباً. 

كتبت وقتها، في سبتمبر/ أيلول 2011، أن الشعب المصري لم يؤمن يوماً بالثورة، وأنه لم يشارك فيها، وأن ما يشاع عن كونها ثورة شعبية ليس إلا محض أكاذيب، وكتبت أن تنحّي مبارك كان يفترض أن يكون انطلاق الثورة وليس ختامها، وكتبت أن ما فعله بنا المجلس العسكري الحاكم وقتها، خلال عام حكمه الأول، أسوأ كثيراً من أسوأ كوابيسنا. 

وقتها كان رفاق الميدان يعتبرونني متشائماً، ويتهمونني بالسوداوية، وبعضهم من مدمني النظريات والتحليلات كانوا يرون ما يجري أمراً طبيعياً في ظل مجتمع وصل من الانحدار مرحلة متقدمة بثقافة مبتذلة وأخلاق تائهة ونخبة مأجورة، وأوضاع اقتصادية مهترئة. 

حلمي في الهجرة حينذاك كان منصبّاً على إحدى دول جنوب أوروبا، هي دول قريبة من مناخنا، وأهلها يشبهون أهل سواحلنا. دول نامية والحياة فيها ليست باهظة لمن هم مثلي ممّن لا يملكون من الدنيا الكثير. عندها سقطت اليونان في فخ الإفلاس، ونزل اليونانيون الشارع محتجين ومطالبين بإقالة الحكومة، وتصدت قوات الأمن اليونانية للمتظاهرين وقتلت بعضهم واعتقلت آخرين، ليتبدد حلمي بالهجرة إلى جنوب أوروبا التي تعاني نفس مشكلاتنا من قمع واستبداد وفساد. 

تحوّلت بوصلتي بعدها جنوباً. فكّرت في إحدى الدول العربية المنزوية الهادئة، وأعجبني النموذج الموريتاني. قرأت مطولاً عن موريتانيا المثقفة، وأهلها الطيبين الذين يحفظون القرآن والحديث، ويكتبون الشعر والنثر، ويعيشون على الفطرة. لكن صديقاً مقرّباً نبّهني إلى خطورة السفر إلى بلد الانقلابات، حيث شهدت موريتانيا 15 انقلاباً عسكرياً في نصف القرن الأخير، آخرها انقلاب 2005 الذي تلاه انقلاب 2008. 

بعدها غادرت مصر إلى الخليج، معتبراً أنه نقطة انطلاق إلى حلمي بالالتجاء إلى مكان هادئ. كان الهدف الجديد إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة. كنت معجباً بأوكرانيا، وكان أصدقائي يرددون مقولتي: "أوكرانيا يا حياتي. تحياتي تحياتي"، لكن الزمان لم يمهلني فانقلب الحال في أوكرانيا واحتلت روسيا جزيرة القرم. 

حتى الآن ما زلت في الخليج يطاردني حلمي. لكني لا أفقد الأمل في إيجاد المستقر. عسى أن يكون مصر.

26 يونيو 2015



فستان عيد

فتحت ابنة التاسعة خزانة ملابسها الصغيرة القابعة في أحد أركان غرفتها، تطلعت بشغف طفولي إلى الفساتين المزركشة المعلقة بالخزانة، هي تبحث عن أجملها لترتديه في عيد الفطر.

شغف الطفلة ليس مكتملاً، هي اعتادت كل عام أن تخرج بصحبة والديها لتشتري فستاناً جديداً للعيد، لكنها هذه المرة تكتفي بارتداء أحد فساتينها القديمة، انصياعاً لما أخبرتها به جدتها عندما سألتها عن فستان العيد. 

لم تجادل الطفلة الجدة. هي تدرك، رغم صغر سنها، أن الظروف غير مهيّأة لشراء فستان جديد. 

في جولتها داخل خزانة الملابس بين الفساتين الملونة، بدأت الطفلة تسترجع ذكريات جميلة عاشتها مع كل فستان. أيام وليال من التدليل والضحك واللعب عاشتها عائلتها الصغيرة، نزهات وجولات وزيارات كانت تقوم بها بصحبة الأب والأم. 

أمسكت بأحد الفساتين المعلقة. لهذا الفستان الكثير من الذكريات لديها. هو آخر فستان اشتراه لها والدها. كان باهظ الثمن، ووالدها بسيط الحال، لكنه لم يحتمل تجاهل نظرة الانبهار التي لمعت بها عيناها فور رؤية الفستان. اشتراه دون تردد، لتنهال الإبنة عليه بالقبلات والأحضان.

قرّرت أن ترتدي هذا الفستان في العيد. هو الأحدث في خزانتها، والأغلى ثمناً أيضاً. أخرجته وقرّرت أن تجرّبه. حاولت قدر استطاعتها أن تجعله مناسباً، لكن كان واضحاً أن الفستان لن يصلح. ربما يناسب من هي أصغر منها بعام أو عامين، في الواقع هي اشترته قبل أكثر من عام بالفعل. 

جرّبت فستاناً آخر تحبه. كان أكثر ضيقاً وقصراً من سابقه. باءت المحاولتان بفشل ذريع. تيقنت الصغيرة أن أيّاً من فساتين خزانتها لن يصلح للعيد. كلها باتت ضيّقة أو قصيرة، أو كليهما. 

هي لم تشتر ملابس جديدة منذ أكثر من عام. ظروف الأسرة لا تسمح، الظروف المادية والمعنوية على حد سواء. 

جلست طفلة التاسعة حزينة تفكر في ما يمكن أن تفعله. كانت قد تجاوزت فكرة الملابس الجديدة مسبقاً، واكتفت بأن يمر عليها العيد بملابس لائقة، لكن خزانتها البسيطة خذلتها. 
كادت تخرج لتبكي على صدر الجدة، لكنها تراجعت وتماسكت لوهلة قبل أن تتساقط دموعها على سريرها الصغير. 

خارج غرفة الطفلة كانت الجدة تفكر في كثير من أمور العيد، أبرزها اصطحاب حفيدتها لزيارة أمها المعتقلة، ثم اصطحابها لزيارة قبر أبيها الشهيد، وتدبير المال للقيام بهذا. 

آخر ما يمكن أن يشغل بال الجدة أن تشتري للطفلة فستاناً جديداً، على عكس الطفلة التي تحلم فقط بالفستان. 

القصة السابقة ليست ضرباً من الخيال، وإنما واقع كثير من أطفال مصر الآن. كتبتها وفي بالي طفلة المعتقلة رشا منير.

17 يوليو 2015


بين الاتصال والتواصل

قبل نحو خمسة عشر عاماً لم أكن أمتلك هاتفاً محمولاً. لم تكن التقنية منتشرة بالقدر الذي باتت عليه اليوم. كنا نجري الاتصالات عبر الهاتف الأرضي، والذي كان محدود المدى وعالي التكلفة، كما أن الخدمة لم تكن في أحسن حالاتها. 

على الرغم من صعوبة الأمر كنا نتواصل مع الأهل والأصدقاء وأرباب العمل المنتظر، وحتى مع حبيباتنا؛ كان التواصل صعباً، لكنه كان قائماً. أذكر فرحتي بالقدرة على الاتصال بصديق أو قريب في بلد آخر، أو سماع صوت أحد أفراد عائلتي عن بعد، فالاتصال بين البشر غريزة لا يمكن تجاهلها. 

قبل هذا التاريخ بخمسة عشر عاماً أخرى، كانت خدمة الهاتف الأرضي محصورة في عدد محدود من معارفي. كنت وقتها، وكذا أفراد عائلتي، نتواصل عبر رسائل البريد. كانت مهمة شاقة تستلزم ضرورة الكتابة والذهاب إلى مكتب البريد ودفع الرسوم، كما أن التواصل البريدي كان بطيئاً، وأحياناً تضيع الرسائل ولا تصل أبداً. 

أذكر، جيداً، في طفولتي عندما كان والدي يؤدي فريضة الحج أول مرة، وكان ذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أن جاء عمي إلى منزلنا بجهاز كاسيت، وطلب منّا أن نسجّل بصوتنا رسائل إلى الوالد، حيث أرسل هذا الشريط المسجّل بريدياً. 

كانت تلك، وقتها، طفرة كبيرة بالنسبة إلينا، فنحن لن نكتب، وإنما سيسمع الوالد صوتنا عبر الشريط، وسنقول ما نشاء، طالما أننا لا نتجاوز الوقت المحدد للشريط. 

على الرغم من كل هذه الصعوبات، كان الناس يتواصلون مع بعضهم بعضاً، يرسلون، يومياً، مئات آلاف رسائل التحية والطمأنة والأشواق والغرام. بعض الرسائل البريدية كانت قطعاً أدبية خالصة، وبعضها تحوّل إلى كتب وأجريت عليها دراسات، وبعضها الآخر دخل التاريخ وبات مكانه المتاحف، أو بيع في مزادات بمبالغ فلكية. 

قبل ظهور البريد، كان البشر يستعملون وسائل أخرى، بينها الحمام الزاجل، وقبله إرسال الرسائل مع قوافل التجارة، بخلاف الانتقال إلى مكان الشخص الذي يودون التواصل معه. 

بمقارنة هذه الأمور التي بات بعضها من التاريخ الآن، مع الوضع القائم حالياً، فإن وسائل الاتصال شهدت طفرة كبيرة وباتت في متناول اليد، ولا تحتاج إلى جهد أو وقت أو تكلّف كثيراً من المال. 

لكن تطوّر وسائل الاتصال، واستمراره، لم ينتج عنه تطور مماثل في عملية التواصل التي ظهرت من أجلها الوسائل. 

الواقع أن وسائل الاتصال تطورت، بينما تدهور التواصل، وفي حين باتت إمكانية الاتصال بالأشخاص يسيرة، أيّاً كان مكانهم وفي كل الأوقات والظروف، لم ينعكس ذلك كثيراً على غريزة التواصل بين البشر. بل يمكن الزعم أن التواصل بات أقل حميمية مما كان عليه سابقاً.

6 أغسطس 2015




أطفال رابعة

وقف الطفل ينتحب فوق جثمان أمه القتيلة، يستحلفها بالله أن تستيقظ، هو لا يدرك بسنوات عمره القصيرة وإدراكه المحدود أنها غادرت دنيانا، وأنه لن يستطيع أن يراها بعد الآن. 

ظل الطفل يكرر على أمه المسجاة على الأرض غارقة في الدماء، نداء يطالبها فيه بأن تجيبه كما اعتاد دوما أن تفعل عندما يحدثها، "بالله عليكي يا ماما قومي"، يقول الطفل وفق مشاهد فيديو شهيرة أبكت الآلاف

الأم المصرية الشابة كانت إحدى مئات الأنفس التي أزهقت في مجزرة مروعة لم تشهد مصر في تاريخها الحديث لها مثيلا، الطفل المنتحب كان واحدا من آلاف الأطفال الذين فقدوا أهلهم في تلك المجزرة، وغيرها من المجازر. 

انقلب الجيش، مستغلاً تظاهرات تم تجهيزها، على الرئيس الشرعي المنتخب، والرئيس لم يحرك ساكنا للتصدي للمؤامرة رغم وضوحها، ورغم تحذيرات وصلته من شخصيات في الداخل والخارج. 

قرر أنصار الرئيس اللجوء إلى وسيلة الاحتجاج التي خرجت بها البلاد من ثورة يناير 2011، اعتصموا في أحد ميادين العاصمة، تحدوا سلطات الانقلاب التي تملك السلاح والإعلام، وتحدوا الرافضين للثورة على مبارك الذين يعرفون بـ "الفلول"، والذين انضم إليهم لاحقا كثير ممن شارك في الثورة. 

تم تمهيد الأرض لقتل المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، قام الإعلام بدوره، وقامت المؤسسة الدينية، المخترقة أمنيا منذ عقود، بدورها، كما قامت جهات وشخصيات أجنبية بدورها في مؤامرة تمت حياكتها، رغم أن هؤلاء كان يتم تقديمهم، وقتها، باعتبارهم وسطاء لإنهاء الأزمة. 

تم الهجوم على الميدان بزعم فض الاعتصام، ليتضح لاحقاً أن الخطة الحقيقية كانت قتل أكبر عدد ممكن من المعارضين. وقع القتل وسالت دماء المئات، بينهم نساء وأطفال وكهول، لتظهر كالعادة جدلية "قتلهم من أخرجهم"، رداً على حقيقة أن من أطلق الرصاص هو من قتلهم. 

جلس كثيرون لاحقا يتناقشون ويحللون ويتجادلون حول الواقعة، ما بين من يصفها بالمجزرة ومن يعتبرها شراً لا بد منه، ومن يبررها ويتهم من يهاجم مرتكبيها بالخيانة والعمالة. 

لكنّ أحدا لم يبحث عن هذا الطفل الذي راحت أمه ضحية رصاصات غادرة أمام عينيه، أو غيره من الأطفال والشباب الذين قُتل آباؤهم وأمهاتهم وأخوتهم برصاصات عشوائية، بل أحرق جثمان بعضهم بعد قتله. لم يسأل أحد هؤلاء الصغار عن موقفهم من النظام الذي قتل ذويهم، ولم يهتم أحد بحالتهم النفسية والاجتماعية، وربما لا يعرف أحد إن كان بعض هؤلاء هم من يقتلون الجنود في أنحاء البلاد الآن. 

ربما لن يهتم أحد بهؤلاء، حتى تقع مجزرة جديدة. ليبدأ مجددا التحليل والنقاش والجدال.

14 أغسطس 2015



الطفل العربي البائس

يجلس الطفل العربي شاحباً حزيناً، يتذكر أياما أفضل عاشها في كنف أسرة دمّرت بفعل أطماع سياسية داخلية ومؤامرات خارجية متواصلة. تفكيره المحدود بفعل عمره المحدود لا يمكّنه من إدرك سبب الحال الذي باتت عليها حياته، كما يشك في أن بإمكانه مواصلة الحياة على هذه الشاكلة. 

لمى طفلة سورية غادرت بلادها مع البقية الباقية من أسرتها، بعد مقتل والدها وشقيقها الأكبر في واحدة من غارات النظام على بلدتهم الهادئة، بالأحرى التي كانت هادئة. حملتها أمها مع بقية إخوتها باتجاه تركيا، حيث عبروا الحدود إلى مخيم بائس لا تتوفّر به إلا الحدود الدنيا من وسائل الحياة، ولا يضم أياً من وسائل الترفيه التي تحتاجها طفلة في عمرها، على أمل البدء مجدداً في رحلة جديدة إلى الداخل الأوروبي. 

عبد الرحمن طفل ليبي عاش ضمن عائلة ميسورة الحال في أحد أحياء طرابلس الراقية، حيث كان والده ضابطاً في الجيش. لكن الوالد قتل في الصراع الدائر في البلاد للاستحواذ على السلطة، وفي ظل عدم وجود حكومة مركزية، فإن العائلة لا تجد مصدراً للدخل إلا ما يجود به المحسنون من الجيران. 

عادل طفل يمني يتحدّر من قبيلة معروفة. والده كان صحافياً مرموقاً مشهوداً له بالنزاهة، لكنه اختطف خلال الصراع الذي يدور حالياً في البلاد، ولا أحد يعرف على وجه التحديد الجهة التي خطفته، ولا يمكن تحديد مصيره على الرغم من مرور نحو عام. أحوال الطفل المادية ليست سيئة بسبب ثروة العائلة، لكن أحواله النفسية على خلاف ذلك تماماً. 

منة طفلة مصرية عاشت سنوات عمرها الأولى في حي راق في العاصمة، في كنف أب يعمل طبيباً وأم صيدلانية، وعائلة كبيرة تضم عدداً كبيراً من الأطباء وأساتذة الجامعة. اعتقل والدها بعد الانقلاب العسكري منتصف عام 2013، وكذا عدد كبير من أعمامها وأخوالها، وتم التضييق على والدتها في عملها لاحقاً، ما جعلها تفقد مكانها في مدرستها الشهيرة وتنتقل إلى مدرسة حكومية بائسة، وجعل الأسرة تترك منزلها المرفه إلى منزل الجد العادي في إحدى ضواحي القاهرة. 

مهند طفل فلسطيني من غزة. ولد في منزل تملؤه صور لأشخاص لم يرهم يوماً، لكنه يحفظ أسماءهم وحكاياتهم عن ظهر قلب، إذ تكرر جدته على أسماعه وأسماع إخوته وأبناء عمومته قصص أصحاب الصور. هذا جدك الشهيد، وهذا عمك الشهيد الذي أسميناك باسمه، والثالث أيضاً عمك وهو شهيد، وهذا شقيقك الأكبر وهو أيضاً شهيد. أربعة شهداء في منزل واحد، بينما الصورة الخامسة لأبيه، وهو أسير في سجون الاحتلال منذ ثلاث سنوات. 

إنها حالات محدودة من بؤس وقهر يعيشه ملايين الأطفال العرب في اليوم العالمي للطفل.

19 نوفمبر 2015



دوري في الشماتة

يغضب صديقي السابق من سخريتي مما آل إليه حاله وحال الكثير من رفاقه، ممن دعموا الانقلاب على الديمقراطية، وارتضوا عودة الجيش لحكم البلاد، بعدما تعاموا عن كل ما فعله بنا الجيش مع الشرطة لأعوام؛ لمجرد أن مظهر الحاكم المنتخب أو بعض تصرفاته لا تعجبهم.

ينكر عليّ الصديق السابق حقي الثابت في السخرية من حالهم المزري وأوضاعهم البائسة تحت حكم جنرال فوضوه لقتل مواطنين آخرين لأنهم فقط لا يشبهونهم، وهو نفسه الجنرال الذي انتخبوه حاكماً لينقذ البلاد من الانهيار، حسبما روجوا زوراً، ثم لم يلبث أن نكل بهم وقمعهم ومنع عنهم أبسط حقوقهم التي أنكروها سابقا على الشعب الآخر، وفق أغنيتهم الشهيرة "انتو شعب واحنا شعب"، وهي الحقوق التي كانوا ينعمون بها في ظل حكم الرئيس الذي شاركوا في الانقلاب عليه.

لم أكن، وغيري كثيرون، أكثر حنكة ولا وعياً عندما واجهنا هؤلاء المنقلبين من أصدقائنا السابقين، مبكراً، أن مساعيهم الهوجاء لإزالة الديمقراطية في البلاد ستؤول إلى إعادة النظام السابق الذي قمنا بالثورة عليه. كان الأمر واضحاً للعيان، ولا يحتاج ذكاء ولا خبرة ولا تنبيها، فقط كان يتطلب معرفة سطحية بالتاريخ وقراءة مبسطة للمشهد، والأهم تنقية القلوب من كراهية الآخر التي أعمتهم وجعلتهم يدفعون البلاد إلى هاوية سحيقة لا يعلم إلا الله متى تخرج منها.

هم الآن يعيشون كارثة مركبة، فكل ما تخيلته عقولهم المريضة بالكراهية راح أدراج الرياح، فلا حرية أبقوا ولا ديمقراطية عاشوا ولا حتى أوضاعاً اجتماعية آدمية، أما عن مستقبل البلاد سياسياً واقتصادياً فهو واضح للعيان؛ فالفضائح تزكم الأنوف والكوارث تتابع، بينما هم لا يملكون حتى حق الاعتراض، ومن يعترض منهم مصيره القتل أو الاعتقال.

أسخر مما فعلوه بأنفسهم، وبنا قبلهم، فيعتبرني شامتاً، ويهاجمني ويتهمني مجدداً. سبق أن اتهمني بالخيانة والعمالة والأخونة، وغيرها من تهم يدرك أنها كاذبة، لكنها كانت ترضيه وقت كانت الكراهية تعميه.

وهو الآن بدل أن يعتذر أو يعترف بما جناه على البلاد وأهلها، يواصل مكابرته وجهالته، ويواصل اتهام من يذكّرونه بما أخطأ فيه بالشماتة، متجاهلاً كل ما فعله وأوصلنا قبل أن يوصله إلى ما نحن جميعاً فيه.

هو يراني شامتاً كلما ذكّرته بخطاياه، وأنا أواصل تذكيره دون أن أنبهه إلى شهور قضاها شامتاً في شخصي، وفي المصير الدامي لمن كنت أراهم على الحق، على العكس منه.

لم أعد أهتم كثيراً باتهاماته أو تفسيراته، بل ربما أكرّر على نفسي أنه دوري في الشماتة، الواقع أنه لا يحق له استنكار شماتة من شمت فيهم سابقاً.

17 ديسمبر 2015



لماذا يكرهون 25 يناير؟

بعد نحو عام من تنحي حسني مبارك عن حكم مصر بثورة شارك فيها عدد من المصريين، أصبح واضحاً لدى كثير ممن شاركوا في تلك الثورة التي تحل ذكراها بعد أيام، أن جنرالات جيش مبارك تركوها تتفاعل وتتصاعد مطالبها لتحقق لهم هدفاً أساسياً كان مخططاً له بالفعل، وهو منع توريث الحكم لابنه جمال.

لم يكن الجيش غاضباً على مبارك بالقدر الذي يسمح له بالانقلاب عليه، على الرغم من أن مبارك سمح للمؤسسة الأمنية بالتوسع على حساب المؤسسة العسكرية كثيراً، سياسياً واقتصادياً، وربما كان ما فعله مبارك كعسكري مقصوداً لتحجيم قدرات الجيش على التدخل في مقدرات البلاد على حساب مخططات الجنرال العجوز الذي يدرك جيداً طريقة تفكير الجنرالات.

وجد الجيش في ما أطلق عليه لاحقاً "ثورة شعبية"، فرصة لا يمكن تعويضها للانقلاب على مبارك. لا يمكن أبداً لعاقل أن يتصور أن مبارك كان سيتنحى عن الحكم لو أن الجيش لم يُظهر له أنه ضد بقائه، ومفهومة بالطبع محاولات الشرطة للإبقاء على مبارك باعتباره كنزاً لا يعوض، ومفهوم أيضاً موقف الغرب وإسرائيل وكذا بعض دول الخليج منه.

غير المفهوم حتى الآن، تلك الحالة من السذاجة التي كان عليها الثوار في مصر، وربما هي حالة متواصلة حتى الآن. لا يمكن فهم الأسباب التي دعتهم إلى تسليم ثورتهم إلى جيش مبارك. ربما يكرّر البعض أن هذا كان الحل الوحيد المتاح وقتها، لكن بعض الوقائع تنفي ذلك، فالثورة كانت قوية في أيامها الأولى، وكان الجنرالات يحسبون لها حساباً، حتى أن الحوار مع الشباب كان مقدماً على الحوار مع قيادات الأحزاب وعواجيز السياسة الذين باعوا الثورة سريعاً.

في الأساس، لا يمكن تصور قبول الجنرالات لثورة، خصوصاً وأن تلك الثورة قامت على جنرال مثلهم، ولا يمكن تصور أن من سيطروا على البلاد طيلة ستة عقود سيتركونها لمدنيين يرفضون أن يحكمهم جنرال، مهما كانت قوة هؤلاء المدنيين.

ما يحتاج إلى دراسات ونقاشات مطولة هو موقف المصريين العاديين من الثورة، وانحيازهم الأعمى للجنرالات، ورفضهم لكل محاولات تغيير النظام القمعي الفاسد الذي تحكم كل قراراته وتصرفاته مصلحة أفراده ومصالح من يحمونه أو يدعمونه من الخارج، على الرغم من أن هؤلاء البسطاء هم أكثر المتضررين منه، وأكثر المستفيدين من تغييره.

جرت بالفعل نقاشات ومحاولات فهم كثيرة على مدار السنوات الخمس الماضية، لكن أحداً لم يستطع بعد تفسير الحالة بوضوح، ربما نحتاج مزيداً من الوقت، وربما نحتاج مزيداً من التحليل، وربما نحتاج أيضاً أن تمر البلاد بمزيد من الأحداث ليفهم الناس الواقع، قبل أن نعرف لماذا يكره معظم المصريين 25 يناير.

22 يناير 2016



نقاش عربي متكرر

يرى أحد الأصدقاء أن العرب يعانون مؤامرة كونية تكاد تقضي عليهم، وأنهم أكثر شعوب الأرض تعرضاً للظلم والقتل من جانب أطراف كثيرة تحيط بهم، بينما يرى صديق آخر أن العرب هم وباء الكرة الأرضية، وأن الإجهاز عليهم جميعاً، بما فيهم هو نفسه، سيخلص العالم من شر كبير ويجعله أفضل كثيراً، فيرد صديق ثالث بتوجيه سباب مشين للشخصين السابقين؛ متهماً الرجلين بتهم كثيرة تثبت للأسف بعض ما يرددانه عن العرب.

في هذا النوع من الجلسات، وإزاء تلك النوعية من النقاشات، ألتزم عادة الصمت، ليس عجزاً عن المشاركة في السجال، ولا انتصاراً لفكرة رابعة، ولكن إيماناً بأن تلك النقاشات المطولة المتكررة لا تجدي نفعاً وأنها لا تفضي أبداً إلى نتيجة أو اتفاق، وربما لاعتقادي أن ما يراه الأصدقاء الثلاثة فيه بعض من منطق، وإن كان يخالف الحق.

أنا وأصدقائي الثلاثة، وكل منهم من جنسية مختلفة، ولدنا لأبوين عربيين، وتربينا وسط العرب؛ وجميعنا مهموم بقضايا الأمة انطلاقاً من هموم بلده المأزوم، وكل منا منهمك في ملاحقة أخبار احتلال فلسطين، والحرب الدائرة في سورية واليمن والعراق وليبيا والصومال، وعنف السلطة الغاشم في مصر والسودان والجزائر...، والصراع السياسي المدمر في لبنان وتونس، والتهميش القائم تجاه موريتانيا وجيبوتي، والتدخل الخارجي في كل دول المنطقة، وجميعنا يرفض أو يحاول مقاومة القمع والرجعية والابتذال المتفشي في بلدان العرب، والذي يتخذ أشكالاً متباينة لكنها في المحصلة قائمة.

لم يصل أي منا إلى قناعاته فجأة، ولم يعلنها بتلك الفجاجة مصادفة، ولم يؤثر فيه حدث عابر أو واقعة بعينها؛ جميعنا جرب انتصارات وانكسارات، وعاش أزمات وصراعات، وكلنا تغيرت آراؤه وقناعاته، بل وحتى انحيازاته، بتغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ما يجمعنا كأصدقاء، وربما يحفظ صداقتنا المتوترة، أنّ أياً منا لا يستطيع العودة إلى بلاده لأسباب متباينة، وأن أياً منا يرى أن بلده على شفا حفرة من نار، أو سقط في الحفرة بالفعل؛ لا يرى أحدنا أن ما يجري في العالم العربي يمكن أن يفضي إلى خير، حتى أن أكثرنا تفاؤلاً يرى أن كارثة كبيرة على الأبواب وأنها ستسحق في طريقها كثيراً من الأنفس وتعطل حلم المستقبل الذي يعيش الملايين بانتظاره.

تنتهي حواراتنا دائماً بإفراغ قدر كبير من الكلام الغاضب في وجوه بعضنا الآخر، قد يغضب بعضنا قليلاً مما قيل، لكننا نلتقي مجدداً لإفراغ قدر جديد من غضبنا المكبوت، ربما يكون تفريغ الغضب أهم فوائد اللقاء، بعد أن استنفدت النقاشات كل الأفكار وانتهت إلى أنه لا جدوى.

5 فبراير 2016


كذبة أول أبريل

اليوم هو الأول من أبريل/نيسان، في هذا اليوم من كل عام يبحث كثيرون حول العالم عن كذبة، يسمونها كذبة أبريل، أو كذبة نيسان، ليس هذا هو المهم.

غرض البحث عن كذبة اليوم الأول من الشهر الرابع الميلادي ليس مكروها بقدر كراهية الكذب ذاته، بالأساس الكذب مباح في بعض الحالات المحدودة طالما أنه سيؤدي إلى نتائج محمودة.

ربما تكون كذبة اليوم التي هي بالأساس مزحة؛ محاولة للتحايل على واقع كئيب نعيشه، وربما ينتج عنها بعض من السعادة الغائبة عن عالمنا، المهم ألا نصدقها ونعيش فيها باعتبارها جزءاً من الحقيقة؛ يكفينا ما نعيشه من أكاذيب هي في الأصل سبب البؤس والشقاء المنتشر حول العالم.

***

يختلف الناس حول مفهوم السعادة، فالبعض يراها راحة البال، والبعض يراها في كثرة المال، وآخرون يرون السعادة في امتلاك مقومات الحياة، بينما قلة من البشر تروج أن السعادة في الحرية من القيود.

لا شك أن السعادة ككل المشاعر الإنسانية قيمة غير ملموسة، لكنها ضرورة يسعى البشر في كل مكان وزمان لتحصيلها، لا أحد يرغب أن يعيش تعيساً، ولا أحد يرضى أن تسلب منه سعادته، أيا كان مفهومه لها.

لكن لماذا لا يعيش الناس سعداء؟ ما الذي يدفع البعض للبحث عن السعادة بالأساس؟ ماذا يمنعهم من الشعور أن حياتهم سعيدة؟

في تفصيل الإجابة عن تلك الأسئلة مصاعب أكبر من تفصيل معنى السعادة نفسه، ولو كانت الإجابة عن تلك الأسئلة تؤدي إلى نتائج إيجابية لانشغل كثيرون بها، لكن الواقع أنها تزيد من غموض مفهوم السعادة.

الأهم أن ما يزيد البؤس والتعاسة حول العالم، ليس عدم وجود تعريف للسعادة، وإنما لأن الناس لا يسعون إلى السعادة بالقدر نفسه الذي يسعون به إلى تحقيق المصالح المادية، من مال ومناصب ونفوذ، ولا يدرك معظمهم أن سعيه الدؤوب إلى تلك المصالح المادية هو السبب الأساسي لغياب السعادة عن حياته التي تتحول إلى مسيرة من الشقاء والتعب والكآبة.

***

قبل يومين، وبعد ساعات قليلة من خطف مواطن مصري لطائرة كانت في رحلة محلية إلى قبرص، انتشرت أخبار أنه قرر خطف الطائرة لمقابلة زوجته السابقة، فكتب صديق على "فيسبوك": "ما فعله الرجل خطير ومزعج بالفعل، ليس لأنه خطف الطائرة، ولكن لأنه رفع مستوى تطلعات النساء، كيف لي أن أستطيع إرضاء امرأتي من الآن؟ لست مجنونا لأخطف طائرة لأقابلها".

وفي نفس السياق كتبت صديقة على "تويتر": "أنا سعيدة. أخيرا فهم رجل ما تطلبه النساء، من حق خاطف الطائرة أن نضع له تمثالا بجوار مرآة الزينة في غرف نومنا. كيف لي برجل يحبني هكذا؟".

في النهاية اتضح أن القصة كاذبة.

1 أبريل 2016



حنانيكم

خمس سنوات أو أكثر من النقاشات والسجالات حول جدوى الثورات العربية، خسرنا بسببها أصدقاء وزملاء وأقارب، واكتسبنا خلالها قناعات وصداقات ومعارف. 

كنت في بداية الثورة متحمساً للنقاش حول جدواها وأسبابها ومآلاتها مع آخرين ربما يغضبهم رأيي أو يرفضونه، كنت حريصاً وقتها على مناقشة هؤلاء تحديداً. كنت أرى أنني مضطر لذلك لأن البعض لا يدرك الواقع، أو يرغب في تجاهله أملاً أن تستمر الحياة التي اعتادها على وتيرتها القائمة. 

لا شك أن البعض يكره التغيير، كما أن البعض يخافه ويحرص على بقاء الأوضاع على ما هي عليه، مهما كانت سيئة أو قبيحة. 

أتذكر الآن الخلاف الذي ظل دائراً لشهور طويلة بيني وبين أصدقاء في عدة دول عربية، أضحك أحياناً، وأتجهم كثيراً، لا أندم لحظة على مواقفي، ولو عاد الزمان لكان رأيي وكانت انحيازاتي هي نفسها. 

لست مصلحاً ولا ملاكاً، ولا هم أيضاً شياطين، وربما كنت طرفاً في الأزمة لمرات، لكني أصبحت أكره ما وصلنا إليه، فبدلاً من التفرغ لأداء مهمتنا في البناء وزيادة الوعي وإسعاد الآخرين، تفرغنا للتنابذ والتصارع، ظناً أن جولة يربحها أحدنا تجعله الأفضل. 

أحياناً أحدث نفسي قائلاً إن أحداً منا لم يحتكم إلى العقل والمنطق، ولا أحد منا وضع الأمور في نصابها الصحيح، وإننا جميعا كنا نبحث عن بطولة زائفة أو نصر تملؤه الهزيمة. 

ثم أعود لنفسي مجدداً لمناقشة القناعات والمبادئ، وضرورة الانحياز إلى الحق والخير والعدل، وخطورة غياب الوعي عن أشخاص كنا نسير على دربهم. 

أحزن كثيراً أني، ومثلي كثيرون، ضيعنا وقتاً طويلاً في الصراع، ومنذ فترة أتردد في الكتابة عن تلك الأزمة مع الأصدقاء التي وجدت نفسي داخلها، اليوم فقط امتلكت الجرأة لأقول لهم "حنانيكم" فكلنا خاسرون. 

يقول صديق دائماً إن خسارة هؤلاء خير بلا شك، ويكرر أن هؤلاء لم يكونوا أصدقاء بالأساس. وأن المبادئ أهم من الصداقة. 

ربما لديه حق، لكن ماذا لو أن الآخرين يقولون عنا نفس الكلام، ويتهموننا بنفس ما نتهمهم به. 
قبل ثلاثة أعوام كنا كفريق انحاز للثورات، نعيش زهوة انتصار فكرتنا، وكان المختلفون معنا يتجرعون مرارة هزيمة أطروحاتهم الرافضة للتغيير، لم يكد يمر عام حتى تبدل الوضع تماماً بعدما تسيدت الثورة المضادة في بلدان الربيع العربي، وأصبحت أطروحاتهم هي الغالبة، وبات نصرنا السابق مجرد ذكرى نتجرع مرارتها. 

لم يمر وقت طويل حتى تغير الوضع مجدداً، فنصرهم المزعوم بات ظاهراً أنه زائف، وبلدان الربيع العربي عادت لتغلي من جديد. وأطروحة الاستقرار التي روجوها أصبحت لغواً. لكنهم ينكرون. 

عدنا مجدداً للسجال.

8 أبريل 2016



كرتونة التحرير



ليلة شديدة البرودة من ليالي الثورة المصرية في ميدان التحرير قبل تنحي مبارك عن الحكم. يسري في المكان دفء غريب، ربما بفعل الزحام أو الحماس، وربما كان من أثر مئات قنابل الغاز المسيل للدموع التي تزكم الأنوف.

يضم الميدان عشرات الآلاف عادة، معظمهم معتصم يقضي أيامه ولياليه بالمكان محتمياً ببطانية أو خيمة، أو يتدفأ بنار يشعلها مع الرفاق.

الجميع منهكون متوترون، لكن أغلبهم لديه إصرار عجيب على عدم التخلي عن المبدأ الذي صمد من أجله أمام رصاص الأمن واعتداء البلطجية لأيام.

معظم المتواجدين ينتمون للطبقة الفقيرة، وبعضهم إلى الطبقة المتوسطة؛ بعضهم موظفون أو حرفيون ينفقون من مرتباتهم البسيطة على أسرهم، وبينهم طلاب ينفق عليهم أهلوهم، ومعهم أيضاً عاطلون عن العمل.

معظم المعتصمين نفدت أموالهم، وسرت بينهم حالة من غياب مقومات الحياة اليومية الطبيعية سببها الأول "تفليسة" إجبارية.

فكرة خطرت ببال شخص غير معروف؛ ظل غير معروف؛ ونقلها عنه بعفوية كثيرون، كنموذج لمئات من الأفكار التي عرفها الميدان، الفكرة على بساطتها عبقرية، وعلى سهولتها كانت كفيلة بإنهاء أزمة.

حمل صديقنا الثائر المجهول فجأة "كرتونة" ورقية صغيرة، وبدأ يطوف الميدان قائلاً للمارة والجالسين: "لو معك فلوس ضع منها في الكرتونة. لو ليس معك خذ منها ما يكفيك".

هكذا ببساطة تحولت "الكرتونة" الصغيرة إلى وسيلة لسد حاجات المفلسين، وطريقة آدمية ليمنح الميسورون الموجودون في الميدان رفاقهم المعسرين المال؛ دون أن يشعر هذا بفضل، أو يشعر ذاك بإيذاء لكرامته.

انتشرت الفكرة سريعاً في الميدان، وكانت سبباً في دعم بقاء البعض، ومنحهم احتياجات بسيطة بينها الطعام والسجائر على وجه الخصوص.

لكنها لم تستمر طويلاً، فالمخلوع مبارك ذهب إلى غير رجعة، وتوافدت الناس من أنحاء البلاد إلى الميدان، وتمكن المعتصمون أخيراً من العودة إلى بيوتهم ليطمئنوا على ذويهم وينعموا بنوم هادئ طويل وحمام دافئ حرموا منه نحو ثلاثة أسابيع متواصلة.

عاد المصريون إلى الميدان لاحقاً مرات عدة، لكن "كرتونة التحرير" لم تظهر مجدداً، وإن بات هناك وعي أكبر بتدبير وسائل استمرار الاعتصام.

لا زال المشهد محفوراً في ذاكرتي رغم مرور أكثر من خمس سنوات؛ كونه يجسد الكثير من المعاني ويدلل على ذكاء واحترام البسطاء لأنفسهم وللآخرين، مقابل تجبّر وتسلط وظلم وفشل نظام حكم صور له غباؤه أنه دمر قدرة البسطاء على الثورة، ليكتشف لاحقاً، ومعه العالم، أن المصري البسيط قادر على الثورة، وأن خضوعه في فترة ما لا يعني أن صمته سيستمر إلى الأبد.

15 أبريل 2016







يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق